الانتخابات في العالم العربي- هل هي ديمقراطية أم إعادة إنتاج للاستبداد؟

المؤلف: مصطفي المرابط08.16.2025
الانتخابات في العالم العربي- هل هي ديمقراطية أم إعادة إنتاج للاستبداد؟

يذكر جون ستيوارت ميل مقولة بليغة: "كل نظام سياسي يحتاج إلى قوة موازنة تعارض السلطة المطلقة، لذا ينبغي أن يتضمن أي دستور ديمقراطي جوهرًا لمقاومة الديمقراطية ذاتها".

لا خلاف على أن الانتخابات في "الدول النامية"، وبالأخص في العالم العربي، تشكل حدثًا وظاهرة تثير نقاشًا واسعًا وجدلاً عميقًا، وتخلق حالة من التجاذب بين مختلف أطياف المجتمع. هذا الواقع يدفعنا إلى التساؤل بإلحاح عن مكانة هذه الانتخابات، وماهية وظيفتها الحقيقية، وجدوى دورها، ومدى مشروعيتها في هذه السياقات.

إذا كانت الانتخابات -باعتبارها أداة جوهرية من أدوات الديمقراطية- تشكل آلية حضارية للتداول السلمي على السلطة، كما هو مُفترض نظريًا، وكما هو معمول به في الدول التي ترسخت فيها التجارب الديمقراطية عبر الزمن؛ فإنها في "الدول النامية" تتجسد بوجهين متناقضين: وجه ظاهر للعيان، ووجه خفي مضمر. ولا يمكن سبر أغوار أسئلة المكانة والمشروعية والوظيفة والدور إلا باستحضار هذا التناقض الجوهري في طبيعة الديمقراطية، والتي تحمل في طياتها الانتخابات كأحد أبرز مظاهرها.

ألا تؤدي آلية الانتخابات إلى إعادة إنتاج الاستبداد بصورة أنيقة، مُغلَّفة بحلة سياسية ودستورية عصرية وبأبجدية جديدة؟ بعبارة أخرى، ألا يمكن اعتبار الانتخابات بمثابة "آلة" فعالة لتحويل الاستبداد من صورته الصلبة الفجة إلى حالة ناعمة مستترة؟

لذلك، نجد تفسيرًا منطقيًا للرأي السائد في العديد من الكتابات والأبحاث حول الديمقراطية، والذي يميل إلى اعتبارها مجرد شكلانية فارغة من المضمون الحقيقي. سواء أُرجِعت هذه الشكلانية إلى غياب الإرادة السياسية الحقيقية، وهيمنة نزعات التسلط والاستبداد، أو إلى ضعف الثقافة السياسية وعدم ترسيخ القيم الديمقراطية الأصيلة في المجتمع. إننا نتفهم هذا الرأي، لأنه يعتمد في قراءته وتحليله للظاهرة على الوجه الظاهر فقط؛ أي على الجوانب المعلنة والمنطوقة من الظاهرة، بينما لا تكتمل الصورة ولا تستقيم المقاربة إلا باستنطاق الوجهين المتلازمين للظاهرة:

أولهما: الوجه الظاهر، والذي تطغى عليه الشكلانية الزائفة، حيث يتم التركيز على تجميل صورة النظام السياسي القائم. ففي هذا الوجه، تؤدي العملية السياسية بشكل عام، والانتخابات على وجه الخصوص، دورًا رئيسيًا في إضفاء الشرعية على النظام في الداخل والخارج، من خلال بناء صورة وردية تمنحه مسحة من الديمقراطية. هذا الوجه لا يحتاج إلى تفصيل وإسهاب، فالكتابات السياسية والإعلامية المنتشرة، والواقع المعيش، يغنيان عن هذه المهمة.

ثانيهما: الوجه الباطن، والذي تضطلع فيه الديمقراطية بآلياتها المتنوعة بأدوار تتعارض مع المنطوق، وتعاكس المفهوم المتعارف عليه في الكتابات التأسيسية لها. يبدو الأمر وكأن حضور الديمقراطية كاسم يغني عن المضمون. هكذا يجد الباحث نفسه أمام سيل من المفردات التي تكتسب معانيَ مغايرة، وتتخذ أوضاعًا مختلفة عن السياق الذي نشأت فيه، مثل الدولة والمجتمع والشعب والانتخابات والدستور والديمقراطية والسيادة والمواطنة… فإذا لم يأخذ الباحث في الحسبان السياق الذي تنتظم فيه هذه المفردات، فلن يتمكن من الإحاطة بآثارها ولا فهم تحولاتها، بل سيصاب بالدهشة والحيرة حين يرى أن المفهوم الواحد يتخذ تجليات مختلفة ويؤدي مهام ووظائف متباينة. وهذا هو حال الديمقراطية عمومًا، والانتخابات على وجه الخصوص، في البلدان المسماة "نامية".

في سياقات هذه البلدان، وعلى وجه الخصوص في البلدان العربية، حيث يتم استيراد الديمقراطية كمفهوم لتزيين المشهد السياسي الجديد بمكوناتها المختلفة: الأحزاب، البرلمان، الدستور، الانتخابات…، يجب علينا أن نتساءل بشكل جاد عن وظيفة الديمقراطية وأدوارها الحقيقية، وأن نضع الانتخابات تحت مجهر البحث والتحليل العميق، باعتبارها أحد تجلياتها البارزة؛ ألا يمكن أن تتخذ بعض مظاهر الديمقراطية وظيفة لتكريس الاستبداد، على الرغم من التناقض الظاهر بينهما؟

ألا تؤدي آلية الانتخابات إلى إعادة إنتاج الاستبداد في حلة سياسية ودستورية جذابة وبأبجدية جديدة؟ بعبارة أخرى، ألا يمكن القول إن الانتخابات تعمل كـ"آلة" فعالة لتحويل الاستبداد من حالته الصلبة المكشوفة إلى الحالة الناعمة الخفية؟ هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، تعمل على ترويض قوى المجتمع وإعادة تشكيلها وفقًا لشروط "المؤسسة" الحاكمة.

هذه التساؤلات تذكرنا بالطريقة المبتكرة التي استخدم بها توماس هوبز إستراتيجية التمثيلية لبناء الدولة الحديثة؛ فالانتخابات بالنسبة له هي وسيلة ضرورية لإضفاء الشرعية على السلطة السياسية بعد انتزاعها من الشعب. بل ذهب إلى حد اعتبار الانتخابات "وهمًا" يهدف إلى خلق حكم مطلق لا يقبل المنازعة!

أما الأحزاب السياسية، وهي ركيزة أساسية من ركائز الديمقراطية، والتي من المفترض أن تكون حلقة وصل بين المجتمع والدولة، وتمثل مختلف شرائح الشعب، وتدافع عن حقوقهم؛ فإنها تثير لدى المتأمل أسئلة جوهرية حول دورها ومهامها الحقيقية ووظيفتها في سياق البلدان العربية على وجه الخصوص، أو "النامية" بشكل عام. هذه الأسئلة خاصة بهذا السياق، وتتطلب بحثًا معمقًا واجتهادًا خارج الإطار التقليدي السائد. من باب تحفيز التفكير وتشجيع التدبر، نتساءل: ألم تكن هذه الأحزاب مجرد أداة من أدوات الدولة الحديثة، تؤدي دور الصمام الذي يحميها، أو العازل الذي يفصلها عن المجتمع، وتعيد إنتاج العلاقة العمودية القائمة على الإخضاع والتبعية، ولكن بلغة "الشعب" ومفرداته الرنانة؟

إن قنوات التواصل التي تُفْتَح عبر الأحزاب بين الدولة والمجتمع، والتي من المفترض أن تضمن العبور الحر بينهما ذهابًا وإيابًا، وأن تُستعمل للإنصات الفعال أو التحاور البناء أو التفاوض المثمر بينهما، كما هو مُتَصَوَّر في المفهوم الأصيل للديمقراطية، تثير بقوة فضول الباحث ليتساءل: هل ما زالت هذه الأدوار قائمة في واقعنا؟ أم أن هذه القنوات -على قلتها- وُضعت لقياس درجات الضغط الاجتماعي وجسّ نبض الشارع؟ فهي تتسع وتضيق تبعًا لموازين القوى المتغيرة وارتفاع وانخفاض درجات الاحتقان.

إذا كان الوجه الظاهر للديمقراطية قد أُشبع توصيفًا وتحليلاً، فإن الوجه الباطن ما يزال عذراء، يستعصي على الاختراق والغوص في أعماقه. وهذا يعود في نظرنا إلى عدة أسباب جوهرية، منها: عدم الانتباه أصلاً إلى وجود هذا الوجه الخفي، أو عدم إدراك أهميته القصوى، وكذلك قصور مناهج الدراسة وأدوات التحليل وعُقمها في الإحاطة بالظاهرة ضمن سياقاتها التاريخية والثقافية المتشابكة.

دون الوقوع في فخ التعميم المخل، يمكن القول إن الكثير من الدراسات لا تميز بشكل دقيق بين المنهج وموضوع الدراسة والعلاقة الجدلية بينهما، مما أدى إلى تشوهات مؤسفة أساءت إلى البحث العلمي في قضايا المجتمع والدولة، وإعادة التفكير النقدي في إشكالياتهما المعقدة. إن المنهج أو أدوات القراءة والتحليل عمومًا لا تنشأ من فراغ، ولا تتعالى على الفضاء الذي احتضن ولادتها، إنما تنشأ في بيئة مشبعة بمنظومة من القيم الراسخة، ولا مناص من الوعي الواعي بها واستحضارها الدائم عند كل تعامل مع هذا المنهج أو هذه الأدوات.

هذا ما لاحظه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، ولو أنه كان يتحدث عن الماركسية التي اعتبرها كالسمكة في الماء، فبمجرد أن تغادر الماء تفقد الحياة، فإن هذه المقولة تنطبق تمامًا على ما نحن بصدده من تحليل نقدي للديمقراطية في سياقاتنا العربية.

إن عدم استحضار العلاقة الوثيقة بين المنهج ومنظومة القيم، والوعي العميق بها، يحول المنهج إلى حجاب سميك يحجب الحقيقة الموضوعية، بدلاً من أن يكون أداة للكشف والتفسير. ذلك أن هذا المنهج -بكل ما يحمله من قيم ومفاهيم مسبقة- يتحول إلى قالب جامد يعيد تشكيل السياق على مقاس الوقائع التي كانت وراء نشأته وتكوينه.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة